الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
إِنَّمَا فَرَّ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ تَقْرِيرِ هَذَا الْأَصْلِ تَقْرِيرًا صَرِيحًا مَعَ اعْتِبَارِهِمْ كُلِّهِمْ لَهُ كَمَا قَالَ الْقَرَافِيُّ خَوْفًا مِنِ اتِّخَاذِ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ إِيَّاهُ حُجَّةً لِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَإِرْضَاءِ اسْتِبْدَادِهِمْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَدِمَائِهِمْ، فَرَأَوْا أَنْ يَتَّقُوا ذَلِكَ بِإِرْجَاعِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إِلَى النُّصُوصِ وَلَوْ بِضَرْبٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الْخَفِيَّةِ، فَجَعَلُوا مَسْأَلَةَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مِنْ أَدَقِّ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ فِي الْقِيَاسِ وَلِمَ يَنُوطُوهَا بِاجْتِهَادِ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ. وَهَذَا الْخَوْفُ فِي مَحَلِّهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَقِ الْأُمَّةَ مِنْ أَهْوَاءِ الْحُكَّامِ كَمَا يَنْبَغِي، إِذْ كَانَ يُوجَدُ فِي عَهْدِ كُلِّ ظَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ مَنْ يُمَهِّدُ لَهُ الطَّرِيقَ وَلَوْ لِبَعْضِ مَا يُرِيدُ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى.وَالطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى لِحِفْظِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ مِيزَانِ الْعَدْلِ: هِيَ رَفْعُ قَوَاعِدِ الْحُكْمِ عَلَى الْأَسَاسِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (42: 38) وَقَوْلِهِ: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (4: 59) كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنَ التَّفْسِيرِ لَا بِإِنْكَارِ أَصْلِ الْمَصَالِحِ وَلَا بِالتَّضْيِيقِ فِي تَفْرِيعِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا. فَإِذَا نِيطَ ذَلِكَ بِأُولِي الْأَمْرِ أَيْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ الْإِمَامَ (الْخَلِيفَةَ) وَيَكُونُونَ أَهْلَ الشُّورَى لَهُ وَيَكُونُ هُوَ مُقَيَّدًا بِمَا يُقَرِّرُونَهُ فَحِينَئِذٍ لَا يُخْشَى مِنْ جَعْلِ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ ذَرِيعَةً لِلْمَفَاسِدِ مَا يُخْشَى مِنْهُ فِي حَالِ إِقْرَارِ كُلِّ مُتَغَلِّبٍ عَلَى الْحُكْمِ مَعَ التَّضْيِيقِ فِي مَسَالِكِ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ. وَإِنَّمَا مَثَارُ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا أَنْ يُوَسَّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ. وَأَنْ يُقَرَّ عَلَى الْمُلْكِ كُلُّ مُتَغَلِّبٍ، وَيَرْضَى بِتَقْلِيدِهِ كُلُّ جَائِرٍ جَاهِلٍ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَضَاعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ.
.نَتِيجَةُ مَا تَقَدَّمَ: عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسَائِلَ الدِّينِيَّةَ الْمَحْضَةَ، وَهِيَ: الْعَقَائِدُ وَالْعِبَادَاتُ وَالْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ الدِّينِيَّانِ، تُؤْخَذُ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ، وَبَيَانُ السُّنَّةِ لَهَا بِالْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي مُخَالَفَتِهِ. وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ يُنْظَرُ فِي دَلَائِلِهِ، وَيُرَجَّحُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَقْسَامِ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ، وَلَا يُلْتَفَتُ فِيهِ إِلَى الشُّذُوذِ، وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِحْدَاثُ عِبَادَةٍ جَدِيدَةٍ أَوِ الْإِتْيَانُ بِعِبَادَةٍ مَأْثُورَةٍ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَا بِقِيَاسٍ وَلَا بِدَعْوَى إِجْمَاعٍ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَلَا لِمَصْلَحَةٍ، وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ وَالنَّظَرِيَّاتِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ الدِّينَ أُصُولَهُ وَفُرُوعَهُ بِكِتَابِهِ وَبَيَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَهَانَا عَنِ السُّؤَالِ الْمُقْتَضِي لِزِيَادَةِ التَّكَالِيفِ، وَأَخْبَرَنَا أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ مُرَاغِمًا لِنَصِّ الْقُرْآنِ أَوْ طَاعِنًا فِي بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ زَاعِمًا أَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْهُ عِلْمًا وَعَمَلًا بِالدِّينِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ مِنَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ.وَأَمَّا الْأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ، مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَسِيَاسَةٍ وَقَضَاءٍ وَآدَابٍ فَهِيَ تَنْقَسِمُ بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ:الْأَوَّلُ: مَا فِيهِ نَصٌّ مُحْكَمٌ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ لُغَةً، وَارِدٌ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ الْعَامِّ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ وَلَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ مِنَ النُّصُوصِ الْخَاصَّةِ بِمَوْضُوعِهِ أَوِ الْعَامَّةِ كَنَفْيِ الْحَرَجِ وَنَفْيِ الضَّرَرِ وَالضِّرَارِ، وَكَوْنِ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (6: 119) وَكَوْنِهَا تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَتَزُولُ بِزَوَالِ مُقْتَضِيهَا.الثَّانِي: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَصٌّ صَحِيحٌ بِعُمُومِهِ أَوْ تَعْلِيلِهِ أَوْ مَفْهُومِهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً أَجْمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ أَوْ عَمِلَ بِهَا جُمْهُورُهُمْ، وَعُرِفَ شُذُوذُ مَنْ خَالَفَ مِنْهُمْ، فَالْوَاجِبُ فِي هَذَا عَيْنُ الْوَاجِبِ فِيمَا قَبْلَهُ بِشَرْطِهِ عِنْدَ مَنْ عَرَفَهُ.الثَّالِثُ: مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ تَكْلِيفِيٌّ غَيْرُ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ، أَوْ حَدِيثٌ غَيْرُ وَاهٍ وَلَا صَحِيحٍ، فَاخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ لِلِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ رِوَايَتِهِ أَوْ صَرَاحَةِ دَلَالَتِهِ. فَمِثْلُ هَذَا يَعْمَلُ فِيهِ كُلُّ مُكَلَّفٍ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ، وَيُعْذَرُ كُلُّ مَنْ خَالَفَهُ فِيمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ لَا يَعِيبُهُ وَلَا يَنْتَقِدُهُ، كَمَا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ، وَلَمْ يَعِبْ أَحَدُهُمْ مُخَالِفَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَهُ لَا إِمَامًا وَلَا مُقْتَدِيًا، وَكَمَا فَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْخَمْرِ تَحْرِيمَهَا وَبَعْضُهُمْ عَدَمَ تَحْرِيمِهَا، فَعَمِلَ كُلٌّ بِمَا ظَهَرَ لَهُ وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى غَيْرِهِ.وَمِثْلُهُ مَا يَسْتَنْبِطُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الدِّينِ وَأَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى أَوْ سُنَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ عَمِلَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ ذَلِكَ فَلَا يُكَلِّفُهُ تَقْلِيدًا لِمَنِ اسْتَنْبَطَهُ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَشْهَرِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَهُمْ وَأَنْ يَأْخُذَ بِشَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ إِلَّا إِذَا عَرَفَ مَأْخَذَهُ وَظَهَرَ لَهُ صِحَّةُ دَلِيلِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِمَا أَنْزَلَ اللهُ لَا لِآرَاءِ النَّاسِ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (7: 3).وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ كَالْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ أُولُو الْأَمْرِ وَيَتَشَاوَرُوا فِيهِ مِنْ حَيْثُ تَصْحِيحُ النَّقْلِ، وَمِنْ حَيْثُ طَرِيقُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُمْ مَا يَقْتَضِي إِلْحَاقَهُ بِأَحَدِ الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ أَلْحَقُوهُ بِهِ فَكَانَ لَهُ حُكْمُهُ، وَإِلَّا كَانَ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ.الرَّابِعُ: مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ غَيْرُ وَارِدٍ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ كَالْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَادَاتِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالطِّبِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ الْعَامِّ- وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ إِرْشَادًا لَا تَشْرِيعًا- وَكَذَا مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْفَتَاوَى الشَّخْصِيَّةِ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْجُمْهُورُ لِعَدَمِ الْأَمْرِ بِتَبْلِيغِهِ، فَالْأَوْلَى وَالْأَفْضَلُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنَ الشَّرْعِ أَوِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الِاتِّبَاعِ حَتَّى فِي الْعَادَاتِ مِمَّا يُقَوِّي الْأُمَّةَ، وَيُمَكِّنُ الرَّابِطَةَ وَالْوَحْدَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَنْبَغِي لِحُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُجْبِرُوا أَحَدًا عَلَى فِعْلِهِ وَلَا عَلَى تَرْكِهِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً صَالِحَةً فِي مِثْلِهِ.الْخَامِسُ: مَا سَكَتَ عَنْهُ الشَّارِعُ فَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ فِيهِ مَا يَقْتَضِي فِعْلًا وَلَا تَرْكًا فَهُوَ الَّذِي عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُ رَحْمَةً مِنْهُ وَتَخْفِيفًا عَلَى عِبَادِهِ. فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُكَلِّفَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ تَعَالَى فِعْلَ شَيْءٍ أَوْ تَرْكَ شَيْءٍ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّ مَا أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنَّا خَاصٌّ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَمَصَالِحِهَا وَمَشْرُوطٌ فِيهِ أَلَّا يَكُونَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: «لَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» وَأَمَّا أَمْرُ الدِّينِ فَقَدْ تَمَّ وَكَمُلَ. وَهُوَ تَعَالَى شَارِعُ الدِّينِ كَمَا قَالَ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (42: 13) إِلَخْ. وَكَمَا قَالَ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} (45: 18) وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مُبَلِّغُ الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (42: 48) وَمُبِيِّنُهُ كَمَا قَالَ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (16: 44) فَلَيْسَ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سُلْطَانٌ عَلَى أَحَدٍ فِي أَمْرِ الدِّينِ الْمَحْضِ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَدْلُولِ النُّصُوصِ وَلَا نُقْصَانٍ مِنْهَا، وَمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ أَوِ ادُّعِيَ لَهُ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ أَوْ جُعِلَ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى أَوِ اتَّخَذَ رَبًّا مِنْ دُونِهِ {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ} (42: 21).وَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ حَتَّى إِنَّ فِيمَا أَثْبَتْنَاهُ هُنَا تَكْرَارًا وَإِعَادَةً لِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ «وَفِي الْإِعَادَةِ إِفَادَةٌ» كَمَا قِيلَ وَلاسيما إِذَا اخْتَلَفَ الْأُسْلُوبُ وَتَنَوَّعَ التَّعْبِيرُ.ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}.وَجْهُ اتِّصَالِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِمَا قَبْلَهُمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى فِي السِّيَاقِ الَّذِي قَبْلَهُمَا عَنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ اللهُ وَعَنِ الِاعْتِدَاءِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ تَرْكًا لِمُبَاحٍ يَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالْحَلِفِ بِاسْمِ اللهِ تَنَسُّكًا وَتَعَبُّدًا مَعَ اعْتِقَادِ إِبَاحَتِهِ فِي نَفْسِهِ، لَا شَرْعًا يُدْعَى إِلَيْهِ وَيُعْتَقَدُ وُجُوبُهُ وَبَيَّنَ فِيهِ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْأَنْصَابَ وَالْأَزْلَامَ، وَصَيْدَ الْبَرِّ عَلَى الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَبَعْدَ أَنْ نَهَى عَنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ، نَهَى أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ اللهِ تَعَالَى شَيْئًا لَمْ يَكُنْ حَرَّمَهُ، أَوْ شَرْعِ حُكْمٍ لَمْ يَكُنْ شَرَعَهُ، بِأَنْ يَسْأَلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا سَكَتَ اللهُ عَنْهُ عَفْوًا وَفَضْلًا، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ أَوْرَدَ تَكْلِيفًا جَدِيدًا، فَنَاسَبَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ ضَلَالَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِيمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمَا شَرَعُوهُ لَهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْ رَبِّهِمْ، وَمَا قَلَّدَ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى جَهْلِهِمْ، مَعَ بَيَانِ بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَكَوْنِهِ يُنَافِي الْعِلْمَ وَالدِّينَ فَقَالَ: {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} هَذِهِ أَرْبَعَةُ نُعُوتٍ لِأَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْأَنْعَامِ الَّتِي حَرَّمَتْهَا الْجَاهِلِيَّةُ عَلَى أَنْفُسِهَا.«فَالْبَحِيرَةُ»: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ وَهِيَ النَّاقَةُ الَّتِي يُبْحِرُونَ أُذُنَهَا أَيْ يَشُقُّونَهَا شَقًّا وَاسِعًا، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ بِهَا ذَلِكَ إِذَا أُنْتِجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ وَكَانَ الْخَامِسُ أُنْثَى كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: إِذَا وَلَدَتْ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ، يَفْعَلُونَهُ لِيَكُونَ عَلَامَةً عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهَا أَوْ رُكُوبِهَا أَوِ الْحَمْلِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ «بَحَرَ» وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: «كُلُّ مَكَانٍ وَاسِعٍ جَامِعٍ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ» ثُمَّ اشْتَقُّوا مِنْهُ عِدَّةَ كَلِمَاتٍ فِيهَا مَعْنَى السَّعَةِ.«وَالسَّائِبَةُ»: النَّاقَةُ الَّتِي تُسَيَّبُ بِنَذْرِهَا لِآلِهَتِهِمْ فَتَرْعَى حَيْثُ شَاءَتْ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَلَا يُجَزُّ صُوفُهَا وَلَا يُحْلَبُ لَبَنُهَا إِلَّا لِضَيْفٍ، فَهِيَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَابَ الْفَرَسُ وَنَحْوُهُ: أَيْ ذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ حَيْثُ شَاءَ، وَسَابَ الْمَاءُ: جَرَى، فَهُوَ سَائِبٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: هِيَ النَّاقَةُ إِذَا وَلَدَتْ عَشْرَ إِنَاثٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مِنَ الْغَنَمِ مِثْلُ الْبَحِيرَةِ مِنَ الْإِبِلِ، وَعَنْ أَبِي رَوْقٍ وَالسُّدِّيِّ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا قُضِيَتْ حَاجَتُهُ سَيَّبَ مِنْ مَالِهِ نَاقَةً أَوْ غَيْرَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ وَأَوْثَانِهِمْ.«وَالْوَصِيلَةُ»: الشَّاةُ الَّتِي تَصِلُ أُنْثَى بِأُنْثَى فِي النِّتَاجِ وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي وَصَلَتْ أَخَاهَا. قَالَ الرَّاغِبُ: وَهُوَ أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ إِذَا وَلَدَتْ لَهُ شَاتُهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى قَالُوا: وَصَلَتْ أَخَاهَا فَلَا يَذْبَحُونَ أَخَاهَا مِنْ أَجْلِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الشَّاةُ إِذَا نُتِجَتْ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ فَإِنْ كَانَ السَّابِعُ أُنْثَى اسْتَحْيَوْهَا، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ اسْتَحْيَوْهُمَا، وَقَالُوا: وَصَلَتْهُ أُخْتُهُ فَحَرَّمَتْهُ عَلَيْنَا.«وَالْحَامِي»: اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْحِمَايَةِ، وَهُوَ فَحْلُ الضِّرَابِ أَيِ التَّلْقِيحِ، قِيلَ: إِذَا أَتَمَّ ضِرَابَ عَشَرَةِ أَبْطُنٍ قَالُوا: حَمَى ظَهْرَهُ، وَتَرَكُوهُ لَا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ عَلَيْهِ رِيشَ الطَّوَاوِيسِ تَمْيِيزًا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَمَا تَرَى، وَأَقْوَاهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ:الْبَحِيرَةُ: الَّتِي يُمْنَحُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلَا يَحْلِبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَالسَّائِبَةُ: كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ» قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: وَالْوَصِيلَةُ: النَّاقَةُ الْبِكْرُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الْإِبِلِ ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بِأُنْثَى، وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ إِنْ وَصَلَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ، وَالْحَامِي: فَحْلُ الْإِبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ، فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَّعُوهُ (أَيْ تَرَكُوهُ) لِلطَّوَاغِيتِ وَأَعْفَوْهُ مِنَ الْحَمْلِ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَسَمَّوْهُ الْحَامِي.وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ بَقِيَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَحْثِ وَمَنِ ابْتَدَعَهُ لِلْعَرَبِ وَغَيَّرَ شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا ابْتَدَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِمَّا يُضَاهِي ذَلِكَ.أَمَّا مَعْنَى الْجُمْلَةِ: فَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُشَرِّعْ لَهُمْ تَحْرِيمَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَأَخَوَاتِهِمَا أَيْ لَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} بِزَعْمِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُحَرَّمَةٌ سَوَاءٌ أَسْنَدُوا تَحْرِيمَهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً أَوِ ادِّعَاءً عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ كَمَا حَكَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (6: 148) أَيْ وَلَكِنَّهُ شَاءَ ذَلِكَ مِنَّا فَفَعَلْنَاهُ فَهُوَ رَاضٍ بِهِ أَمْ لَمْ يُسْنِدُوهُ إِلَيْهِ. أَمَّا كَوْنُ إِسْنَادِ تَحْرِيمِهِ إِلَيْهِ بِالتَّصْرِيحِ افْتِرَاءً عَلَيْهِ فَظَاهَرٌ بَيِّنٌ، وَأَمَّا إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ ادِّعَاءً وَاسْتِدْلَالًا بِالْمَشِيئَةِ فَهُوَ افْتِرَاءٌ أَيْضًا لِأَنَّ دَلِيلَهُ بَاطِلٌ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَمْنَعِ الْكُفَّارَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفُسَّاقَ مِنَ الْفِسْقِ وَلَا أَكْرَهَهُمْ عَلَيْهَا بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ، بَلْ جَعَلَ لَهُمُ اخْتِيَارَ التَّرْجِيحِ فِي أَعْمَالِهِمْ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ مَجْبُورِينَ عَلَيْهَا، فَعَدَمُ إِجْبَارِهِمْ عَلَى التَّرْكِ أَوِ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى رِضَائِهِ تَعَالَى بِمَا اخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ كُفْرٍ وَفِسْقٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ فِي حَالِ السُّكُوتِ عَنْ إِسْنَادِهِ إِلَيْهِ، فَوَجْهُهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ مِنْ شَأْنِ رَبِّ النَّاسِ وَإِلَهِهِمْ سُبْحَانَهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِهِ وَالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، فَمَنْ تَجَرَّأَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُدَّعِيًا بِفِعْلِهِ هَذَا، إِمَّا الرُّبُوبِيَّةَ وَإِمَّا الْإِذْنَ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى، وَكِلَاهُمَا افْتِرَاءٌ، وَالْفِعْلُ فِيهِ أَبْلَغُ مِنَ الْقَوْلِ {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} أَنَّهُمْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ بِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ بِهِ، بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهِ وَلَوْ بِالْوَسَاطَةِ؛ لِأَنَّ آلِهَتَهُمُ الَّتِي يُسَيِّبُونَ بِاسْمِهَا السَّوَائِبَ وَيَتْرُكُونَ لَهَا مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لَيْسَتْ بِزَعْمِهِمْ إِلَّا وُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَتُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَهَكَذَا شَأْنُ كُلِّ مُبْتَدِعٍ فِي الدِّينِ بِتَحْرِيمِ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَتَسْيِيبِ عِجْلٍ لِلسَّيِّدِ الْبَدَوِيِّ أَوْ سِوَاهُ، وَسَنِّ وِرْدٍ أَوْ حِزْبٍ يُضَاهِي بِهِ الْمَشْرُوعَ مِنْ شَعَائِرِ دِينِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَمْ تُؤْثَرْ عَنِ الشَّارِعِ، يَزْعُمُ أَنَّهُ جَاءَ بِمَا يَتَقَرَّبُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَنَالُ بِهِ رِضَاهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْحَقُّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُعْبَدُ إِلَّا بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا عِبَادَةَ وَلَا تَحْرِيمَ إِلَّا بِنَصٍّ عَامٍ أَوْ خَاصٍّ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ أَوْ يَنْقُصَ بِرَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أَيْ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى قَوَاعِدِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ دُونَ الْعَبَثِ وَالْخُرَافَاتِ وَإِلَى الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لَهَا وَالْمُبَيِّنِ لِمُجْمَلِهَا فَاتَّبِعُوهُ فِيهَا، قَالُوا: يَكْفِينَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا مِنْ عَقَائِدَ وَأَحْكَامٍ وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ. قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} أَيْ أَيَكْفِيهِمْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا إِلَى مَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ؟ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ مَا يَكْفِي الْأَفْرَادَ وَالْأُمَمَ وَمَا لَا يَكْفِي بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالِاهْتِدَاءِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْفَضَائِلِ، وَأَيْنَ مِنْ هَذَا وَذَاكَ، أُولَئِكَ الْأُمِّيُّونَ الْجُهَلَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يَتَخَبَّطُونَ فِي وَثَنِيَّةٍ وَخُرَافَاتٍ، وَوَأْدِ بَنَاتٍ، وَعُدْوَانٍ مُسْتَمِرٍّ، وَقِتَالٍ مُسْتَمِرٍّ، وَعَدَاوَةٍ وَبَغْضَاءَ، وَظُلْمٍ لِلْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ، عَلَى مَا أُوتُوا مِنْ فِطْنَةٍ وَذَكَاءٍ، وَعَزِيمَةٍ وَدَهَاءٍ، وَحَزْمٍ وَمُضَاءٍ، وَعِزَّةٍ وَإِبَاءٍ، وَاسْتِقْلَالِ أَفْكَارٍ وَآرَاءٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي تُؤَهِّلُهُمْ لِأَنْ يَكُونُوا هُمُ الْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ، وَالْخُلَفَاءَ الْعَادِلِينَ، لَوْلَا تَقْلِيدُ الْآبَاءِ! وَكَذَلِكَ كَانَ بَعْدَ اتِّبَاعِهِمْ بِتَرْكِهِمْ مُقْتَضَى الْعِلْمِ وَهِدَايَةِ الْقُرْآنِ.هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَةُ الْمُشَابِهَةُ لَهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (2: 170) هُمَا أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنَ الْآيَاتِ فِي بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، فَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ التَّقْلِيدَ خِلَافُ مُقْتَضَى حُكْمِ الْعَقْلِ وَدَلَائِلِ الْعِلْمِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ، وَلَكِنَّ خَلَفَنَا الطَّالِحَ رَجَعُوا إِلَيْهِ خِلَافًا لِسَلَفِهِمُ الصَّالِحِ، حَتَّى عَادُوا وَهُمْ فِي حِجْرِ الْإِسْلَامِ، شَرًّا مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ فِي حِجْرِ الْأَصْنَامِ.
|